إن كثيراً من الناس -نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم- قد تصوم بطونهم، وفروجهم، وتصوم أكبادهم من الماء، ولكن لا تصوم عيونهم، ينظرون إلى الحرام، وإلى عورات المسلمين، وإلى كل مفتونة وإلى كل منظر يغضب المولى تبارك وتعالى، وهذا ليس بصيام، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] وورد في الأثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {النظر سهم مسموم من سهام إبليس } وجزاء من غض البصر أن يعوضه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه.
نظر أحد الرجال إلى امرأة فاتنة، فقال له أحد الصالحين، وقد أخبره أنه نظر إلى منظر حرام قال: أتنظر إلى الحرام؟ والله لتجدن غبها ولو بعد حين.
قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة، جزاء للمعصية وعقوبة على ما اقترفت يداه، ولذلك فإن أكثر ما نزاوله ونجده في الحياة من غم أو هم أو حزن أو مصائب أو رسوب أو فشل أو انهزام أو تقهقر أو فقر أو مرض هو بسبب ما فعلناه من الذنوب والخطايا، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] والله يعفو عن الأكثر، ولو يؤاخذنا بما نفعل لما ترك على ظهرها من دابة، فرحماك يا رب، وعفوك يا رب، ورضاك يا رب!!
إن الملوك إذا شابت عبيدهـم في رقهم أعتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبتُ في الرق فاعتقني من النار
قال بعض أهل العلم في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] قال: الذين يغضون أبصارهم يرزقهم الله فراسة إيمانية، ولذلك قالوا عن ابن تيمية : إنه كان ينظر بنور الله؛ لأنه غض بصره عن محارم الله، حتى ذكروا عنه أنه كان يعرف الزاني، والكاذب والمخادع من صورهم، حتى يقول الذهبي : كانت عينا ابن تيمية كلسانين ناطقين. يكاد لسانه يتكلم، بقي عليه شيء حتى يكاد يتكلم، يقول:
وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحته يكاد يخشى عليه من تلهبه
يكاد يحترق بالنور، تصور أن إنساناً لا يعرف إلا قيام الليل، والمسجد، والمصحف، وذكر الله، والتوجه إليه سبحانه، والدعاء، والجلوس مع الصالحين، وحب الله ورسوله كيف يكون في الحياة؟!
أما إنسان شذر مذر في كل واد؛ مع الأغنية، والمجلة الخليعة، والجلسة الآثمة، والكلمة الفاحشة، مع النظرة غير المسئولة، ماله رباً، وسيارته رباً، وفلَّته رباً، وسكنه رباً، وشرابه رباً!! كيف يصلح قلبه؟
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
يقول المتنبي : أنا المسئول! أنا الذي نظر، وأنا الذي أصيب، وأنا المقتول وأنا القاتل؛ فمن الذي يحمل الدية؟
يقول في قصيدة عشقية له -الله أكبر عليه من شاعر! لو سخر شعره في خدمة هذا الدين- شاعر العربية، لكنه لم يعرف التوجه، يريد إمرة، مطرود دائماً من سيف الدولة إلى كافور ، ومن كافور إلى عضد الدولة يطلب الإمرة، فمات وما كسب إمرة، وما كسب رضا، وذهب إلى الله، يقول في قصيدته:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
والذي يعمل لغير الله يجد مثل هذه الجزاءات، ضرب رأسه وقتل في الصحراء.
دخل أحد الشعراء على سلطان من سلاطين الدنيا، سلطان لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فقال للسلطان:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
هل نظرتم إلى الكلام؟ هل نظرتم إلى الكفر والزندقة والخيبة وقلة الحياء؟
فابتلاه الله بمرض عضال، ما استطاع الأطباء أن يعالجوه؛ ليعلمه الله من هو الواحد القهار، ومن هو الذي بيده مفاتيح ومقاليد السماوات والأرض، ومفاتيح وخزائن كل شيء، قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] فأخذ يتقلب كالكلب على الفراش ويبكي، ويقول:
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني ورميتني من حالق
لستَ الملومَ أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
أنا الذي مدحك ونسي الله، أنا الذي أنزلك في منزلة الله، أنا الذي أشرك بالله في وحدانيته وألوهيته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً يا أيها الإخوة! هذا صيام العيون، فالله الله! فلتصم عيوننا عن الحرام والخنا، وعن النظر إلى ما يغضب المولى تبارك وتعالى.