ضرب لنا التاريخ، لا سيما تاريخنا الإسلامي، أمثلة حية في سمو المطالب والأهداف وفي علو الهمم والاهتمامات، حيث أن أسلافنا صنعوا التأثير ووجهوا، بل قادوا، حركة الحياة، ولازال نفعهم وأثرهم متصلاً إلى يومنا هذا، ينهل منه قادة التأثير ومهندسوا الحياة، والأمثلة في ذلك كثيرة جداً.
يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل: هلم فلنتعلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كثير، فقال: العجب والله لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فركبت ذلك، وأقبلت على المسألة وتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كنت لآتي الرجل في الحديث بلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلاً، فأتوسد ردائي على باب داره تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج إليَّ، فإذا رآني قال: يا ابن عم رسول الله ، ما لك ؟ قلت: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: هلا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: أنا كنت أحق أن آتيك، وكان ذلك الرجل يراني، فذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد احتاج الناس إليّ، فيقول ( أي الرجل): أنت أعلم مني.
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله ** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وهذا نور الدين محمود زنكي رحمه الله صنع منبر المسجد الأقصى وذلك قبل وضعه فيه بعشرين عاماً، حيث كان له مطلب سام وهمة عالية تمثلت في تحرير المسجد الأقصى من قبضة النصارى، رغم أن الأمة الإسلامية كانت مفككة آنذاك والخلافات شديدة بين قادة الدولة الإسلامية ومع ذلك خطى الخطوة الأولى في إرجاع المسجد الأقصى، وأتم المسير بعد ذلك تلميذه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وحمل المنبر ووضعه في المسجد الأقصى.
وكان الإمام علي بن عقيل البغدادي رحمه الله ذا همة عالية حتى أنه ألف عدداً كبيراً من المصنفات، من بينها كتاب الفنون والذي يقع في أربعمائة جزء، وقد ذكر الإمام الذهبي أنه لم يؤلف مثل هذا الكتاب من قبل، وكان ابن عقيل قد جاوز الثمانين من عمره ومع هذا يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح.
وصدق من قال:
عمرك مـحدود فأدرك به ** بعض الأماني وانتهز واعقل
وهذا الإمام ابن الجوزي رحمه الله يذكر أنه اطلع على أكثر من عشر آلاف مجلد ( في المدرسة النظامية) ومع هذا قال عن نفسه: وأنا بعد في الطلب.
وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله حازماً مع نفسه سامياً في همته، وكان يخاطب نفسه ويقول: قومي فوالله لأزحفن بك إلى الله زحفاً حتى يكون الكلل منك لا مني .
ويقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت، وإن وضعها اتضعت .
وجاء في التاريخ أن برناروت رأس الأسرة الحاكمة على السويد لم يكن في إبان أمره إلا عاملاً صغيراً في مصنع، وكان يخيل إليه أثناء العمل أن هاتفاً يهتف في أذنه بكلمة ستكون ملكاً ، فطفق من حينه يعمل لتحقيق هذا الحلم حتى صار ملكاً.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الراحة للرجال غفلة
وقال شعبة: لا تقعدوا فراغاً فإن الموت يطلبكم .
وسأل سائل ابن الجوزي رحمه الله فقال: أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي ؟ فقال ابن الجوزي: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها.
ويحسن بنا الإشارة إلى أن ثمة مؤشرات وعلامات تدل على علو همة المرء، ولعل من أهمها ما يلي:
1. تحرقه وحسرته على ما مضى من أيامه وما فرَّط في سالف زمانه.
2. كثرة همومه وتألمه لحال الأمة وما فيها من ظلم وعنت وتخلف.
3. موالاته النصيحة، وتقديم الحلول والاقتراحات لمن يأمل فيهم التغيير ويرجو منهم الإصلاح.
4. طلبه للمعالي دائماً فيما يفعله أو يتعلمه أو يصلحه.
5. كثرة شكواه من ضيق الوقت وعدم قدرته على إنجاز ما يريده في اليوم والليلة، وليست هذه الشكوى من نمط ما نسمع من ترداد كثير من الناس لها، ولكنها شكوى حقيقية نابعة من عمل دؤوب يستغرق أوقات الشخص فيبث تلك الآهات الصادقة.
6. قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردده، فهو إذا قرر أمراً راشداً لا يسرع بنقضه بل يستمر فيه ويثبت عليه حتى يقضيه ويجني ثمرته، ولا شك أن كثرة التردد ونقض الأمر بعد إبرامه من علامات تدني الهمة
وإليك هذه الوصايا الخمس عشرة التي يمكن بها النهوض بهمتك والسمو بها، وهي:
(1) الاستعانة بالله والتوكل عليه وكثرة الدعاء والطلب من الله تعالى.
(2) استشعار الأجر والثواب عند الله تعالى، والتطلّع إلى الجنان التي أعدَّها الله تعالى للمجتهدين.
(3) مراجعة برنامجك اليومي وتحديد أعمالك بوضوح.
(4) الابتعاد عن سفاسف الأمور ودناياها.
(5) مراعاة الأولويات بعد تحديدها.
(6) قراءة سِيَر أهل الجد والاجتهاد والهمة العالية.
(7) الابتعاد عن الانغماس في الكماليات والأمور الثانوية.
(
التأمل في المكانة السامية وفي إعزاز النفس الذي تتسبب به الهمة العالية.
(9) محادثة النفس وإقناعها بأهمية الهمة العالية وضرورتها.
(10) مجاهدة النفس ومخالفتها وعدم الاستسلام لها.
(11) منافسة القمم، ورفع الرأس إلى السماء، وقبول التحديات.
(12) التفاؤل لا التشاؤم واليأس.
(13) تجنب الإفراط في المباحات، كما قال القائل: من هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد.
(14) الحذر من التسويف، وفي هذا يقول الشاعر: ولا ادَّخر شغل اليوم عن كسل إلى غد، إن يوم العاجزين غد
(15) تجنب الاستجابة السريعة للصوارف الأسرية والملهيات الاجتماعية
واعلم كذلك أن من يسمو بهمته ويعلو بها مبتغياً وجه الله تعالى فإنما هو أولاً وأخيراً يعمل لنفسه، ويقدم لآخرته، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وفي الحديث القدسي: ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها ... ) . (رواه مسلم).
وأخيراً تأمل وتفكر وتدبر ما سطره الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد حيث قال: الكيِّس يقطعُ من المسافة بصحة العزيمة وعُلُوِّ الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعافَ أضعافَ ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاقّ، فإن العزيمة والمحبة تُذهبُ المشقةَ وتُطيِّبُ السير، والتقدم والسبق إلى الله إنما هو بالهِممِ وصدقِ الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة صاحب العمل الكثير بمراحل.